الرئيسية » , , » في الذكرى 29 لرحيل الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: الكُتْبِي الذي أنارَ العالمَ وهو« بَصِير»..! | محمّد محمّد الخطاّبي

في الذكرى 29 لرحيل الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: الكُتْبِي الذي أنارَ العالمَ وهو« بَصِير»..! | محمّد محمّد الخطاّبي

Written By هشام الصباحي on الخميس، 3 سبتمبر 2015 | سبتمبر 03, 2015

غرناطة ـ «القدس العربي»: في الرابع عشر من شهر حزيران/ يونيو الجاري 2015 مرّت الذّكرى التاسعة والعشرون لرحيل الكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس، أحد أقطاب الأدب الأمريكي اللاّتيني الكبار، الذي وُلد في 24 آب/ أغسطس 1899 ، والمتوفّى عن سنٍ تناهز 87 سنة 1986، أكبر احتفاء نُظّم في إسبانيا لهذا الكاتب الفذّ كان قد أقيم ضمن أشغال، وفعاليات ندوة دولية انعقدت في العاصمة الإسبانية مدريد في ذكرى رحيله قبل الأخيرة، تحت عنوان «الكتاب مثل الكون» كانت أرملة الكاتب الرّاحل ماريا كوداما قد شاركت فيها بعرضٍ ضافٍ قامت خلالها بتحليل دقيق لعلاقة بورخيس الحميمة بالكتب والمكتبات، نظراً لمزاولته مهنة مدير للمكتبة الوطنية في بوينس أيريس في مقتبل عمره، كما سلّطت الأضواءَ على المعايشات التي تسنّى لزوجها من جرّائها خلق «عوالم مكتبيّة» فسيحة خاصة به في العديد من أعماله حتى أصبح هذا الهاجس عنده رمزاً كلاسيكيّاً للثقافة المعاصرة، وتعرّضت كوداما (التي هى كذلك رئيسة «المؤسّسة الدولية خورخي لويس بورخيس») خلال هذه الندوة إلى مذكّراتها التي تفصح فيها عن حياتها الخاصّة مع بورخيس وسفرياتها معه، كما تتضمّن المذكّرات العديد من الأخبار، والأسرار التي لم يسبق نشرها أو ذيوعها حول بورخيس من قبل.
وتعتب كوداما في كل مناسبة على النقّاد الذين تطاولوا أو تهجّموا عليها أو على زوجها بعد رحيله، وقالت إنّ مذكّراتها تسلّط الأضواء على كل ما كان مبهماً ومجهولاً في حياة بورخيس، ذلك أنّ العديد من الناس والكتّاب والنقاد قد نشروا غيرَ قليل من الأكاذيب والمبالغات حوله.
كما أكّدت ماريا كوداما في هذا القبيل كذلك: «إنّ نشر هذه المذكّرات جاء نتيجة المعاناة التي كانت تشعر بها حيث سبّب لها كلّ ما نُشر حول بورخيس حزناً عميقاً، وقلقاً مفرطاً وصل بها حدّ الاكتئاب، بل أنّ كلّ تلك الأكاذيب الملفّقة أصابتها بالدهشة، من هؤلاء الذين يطلقون الكلام على عواهنه، حتى لو لم يتعرّفوا قطّ على بورخيس، على الرّغم من أنّ بورخيس لم ينظر قطّ بعين الازدراء أو الاحتقار أو الاستصغار نحو أيّ كاتب أو أيّ عمل أدبي، بل إنّه كان يكنّ الاحترام للجميع، حتى إن لم يتعاطف مع بعض هؤلاء الكتّاب الذين كان لا يتورّع من انتقاد بعضهم، ذلك أنّ النقد عنده كان يعني ضرباً من «اللّعب» نظراً لطبعه المرح الذي يميل إلى السّخرية والتسرّي، حيث كان يطبّق ذلك حتى على نفسه وأعماله».!.

البصيرالذي استضاء به قومُه

تعرّضت ماريا كوداما على وجه الخصوص إلى المرحلة التي كان فيها بورخيس مديراً للمكتبة الوطنية في العاصمة الأرجنتينيّة، بوينس أيريس، وعلاقته الحميمة مع مكتبته الخاصّة، ومع الكتب بشكل عام ، فضلاً عن صلاته وآرائه حول العديد من المؤلفين والكتّاب أمثال كيبلينغ، وايلد، سيرفانتيس، كيبيدو، شكسبير، شوبنهاور، وسواهم من الكتّاب والمُبدعين الآخرين الذين كان بورخيس يبدي نوعاً من التعاطف معهم، والاعجاب بهم. وأكّدت أرملة بورخيس أنّ زوجها ظلّ يقتني الكتب بنوعٍ من الهوس، حتى بعد مرحلة إصابته بالعَمى، بل إنّه خلّد اسمَ المكتبة في إحدى أشهر قصصه القصيرة وهي بعنوان «مكتبة بابل»، ولقد كتب العديد من النصوص عن الكتب والكتّاب والمكتبات طول حياته، وقد أشاد غيرُ قليل من النقّاد من مختلف بلدان العالم بإبداع هذا الكاتب الرّائع الذي بدأ حياته «كُتْبيّاً» بسيطاً ،وعلى الرّغم من عاهة العَمى التي أصابته في شرخ عمره أمكنه أن ينير عوالمَ المُبصرين، وأن يستضيئ القومُ به، وبأدبه وإبداعاته الوضّاءة .
وقالت ماريا كوداما: «إنّ بورخيس أشاد في كتابه «المتآمرون» بطيبة الناس، وسجاياهم الفطرية، خاصّة بعد الفترة التي عاش فيها في جنيف التي أقام فيها عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وكان بورخيس يؤكّد أنّ هذا البلد كان مثالاً فريداً التعايش والتسامح لتعدّد اللغات التي يتحدّثها الناس به، وكثرة دياناته، ففي هذا البلد تُحترم الفوارق من دون مَحْوها أو العمل على إذابتها، لقد لمس بورخيس بنفسه في هذا البلد كيف يحترم الناس اللاجئين، والمُغتربين حيث ترك ذلك فيه أثراً بليغاً. 
وكانت أرملة بورخيس ماريا كوداما قد صرّحت في السياق نفسه: «بأنّ بورخيس لو كان على قيد الحياة اليوم لحظي بالتقدير نفسه الذي أولاه إيّاه قرّاؤه، والمعجبون به وبأدبه في حياته، فبالإضافة إلى عبقريته الإبداعية كان رجلًا وفيّاً لمبادئه، مخلصاً لأفكاره. وتضيف كوداما: «إنّ هذا ناتج عن كون الناس يعترفون بجانب الصّدق في إبداعاته الأدبية أو بالنسبة لمسيرة حياته». فبورخيس تعرّض لهجوم عنيف لمناهضته للبيرونية، وقد حرموه من عمله الوظيفي خلال العهد البيروني، أي خلال حكم خوان دومينغو بيرون (1945-1955)، كما أنّ آراءه في بينوشيه جعلت الأكاديمية السويدية تحرمه كذلك من جائزة نوبل في الآداب، وهو الأديب العالمي الذي يحظى باحترام مختلف الأوساط الأدبية في مختلف أنحاء المعمورة. وتضيف كوداما: «هذه الصّراحة التي تميّز بها بورخيس حرمته من العديد من الفرص المماثلة».
تعرّفت كوداما على بورخيس في سنّ المراهقة، إذ لم يكن عمرها يتجاوز الثالثة عشرة، ذلك أنّ أباها وهو كيماوي ياباني كان صديقاً للكاتب، وعندما ماتت والدة بورخيس حلّت كوداما محلّها، حيث تفرّغت إلى نسخ، وكتابة ما يمليه عليها بورخيس من أعمال أدبية حيث كان قد أصيب بالعمى منذ 1950 وصارت ترافقه في رحلاته وسفرياته وتجواله .
وفى شهر نيسان/ ابريل 1985 تمّ زواج بورخيس بماريا كوداما حيث كان عمره 85 سنة، في حين لم يكن عمرها يتجاوز الواحدة والأربعين، وفارق السنّ بينهما أفسح المجال للعديد من التعليقات من كلّ نوع، ليس فقط من طرف الناس، أو الكتّاب أو النقّاد، بل حتى من طرف وسائل الإعلام ، إلاّ أنّ بورخيس وكوداما كانا يستقبلان هذه التهجّمات بنوع من الهدوء واللاّمبالاة، وقد وقفا بالمرصاد لألسنة السّوء التي تحوّلت عند موت الكاتب إلى «كتب ملتهبة» حول العلاقة التي تجمع بينهما، كما كانت هناك خلافات، ونزاعات بشأن إرث بورخيس، حيث ما فتئت الانتقادات اللاّذعة والتهجّمات الشديدة توجّه إلى ماريا كوداما إلى اليوم، من مختلف الجهات داخل بلدها الأرجنتين وخارجه.

مسالك ومتاهات بورخيّة

وتتميّز هذه المرأة التي لا تستقرّ بمكان، والتي لم تفتأ تسافر من بلد إلى آخر بحماس متوقّد ونشاط متواصل وهي تلقي المحاضرات بدون انقطاع حول أعمال زوجها الواسعة والغزيرة، بسحر خاص، وجاذبية لا تقاوم، فبالإضافة إلى نشاطها ككاتبة قامت بالإشراف التام على بناء حديقة في بوينس أيريس أطلق عليها «متاهات بورخية»، حيث كانت قد تلقت «مؤسّسة بورخيس» في شكل هدية تصميما لهذا المشروع المستوحى من أعمال بورخيس، وهو من وضع راندال كواطي، الذي كان يعمل دبلوماسياً لبريطانيا في بوينس أيريس، كما قامت ماريا كوداما بدون كلل بإجراء اتصالات مع بلدية العاصمة الأرجنتينية في هذا الشان، وعملت بنشاط منقطع النظير على غرس الأشجار التي أحيطت «بمنتزه بورخيس» كما عملت أيضاً على إعداد وتنظيم، ندوات كبيرة متعدّدة لعلماء اللغة الإسبانية سلطت فيها الأضواء على أعمال بورخيس الإبداعية، التي تمّ تنظيمها في الأرجنتين وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينية، وأوروبّا، كما عملت على إصدار الأعمال الكاملة لبورخيس بعد أن أضيفت إليها جميع التعديلات والتنقيحات التي قام بها الكاتب نفسه قبيل رحيله. كما قامت مع العديد من الجهات التي تُعنى ببورخيس وبأعماله على إعداد مشاريع وأنشطة أدبية أخرى موازية، كوضع باقات من الورود، والقصائد على واجهات السيارات في مناسبات عيد ميلاد بورخيس الذي يصادف 24 أغسطس من كلّ عام. وتنظيم ندوات دراسية في تواريخ متفاوتة، وأماكن مختلفة حول بورخيس وأدبه، بمشاركة العديد من الأساتذة الجامعيين والباحثين والمهتمّين والمتتبّعين لأعمال هذا الكاتب الكبير.
وتشير أرملة صاحب «الألف»: «لقد صنّفوا بورخيس كسيد فيكتوري، يتحدّث عن متاهات ونُمر ومرايا، إلاّ أنه كان شخصاً لطيفاً خفيفَ الرّوح ومغامراً. «وتضيف»: كانت أمنيته وحلمه أن يعيش في زورق في مجرى غياب نهر التامسيس، إلاّ أنه عندما تزوّجها جعلته يتخلّى عن هذه الفكرة بعد أن حدّثته عن المخاطر التي قد تعتريها، كما أنه كان يستقبل العديدَ من الكتّاب والنقاد والطلبة والمعجبين به. وتشير الناقدة فيكتوريا أسوردوي إلى أنّ غاية كوداما من نشاطها المتواصل على رأس مؤسّسة بورخيس هي الاستمرار في إعلاء الشّعار الذي سبق أن رفعته وتبنّته منذ رحيل زوجها، وهو إخلاصها الدائم لهذا الرّجل الذي لا تفتأ تصفه في كل مناسبة بأنه كان ذا حساسية مفرطة، حيث عانى بسبب ذلك الكثير، إلاّ أنه أمكنه دائماً إنقاذ أعماله من المشاكل اليومية ومن صروف الدهر والحياة» . لم يفتأ العالمُ حتى اليوم يعمل على اكتشاف وتقييم أعمال ذلك المبدع الأرجنتيني الذي حُرم نعمة البصر، ولكنّه وُهب بالمقابل بصيرة نافذة ثاقبة، والذي يذكّرنا عندما نقرأ له ببشّار والمعرّي وأبي عليّ البصير، وطه حسين، ويوسف الدجوى، وإبراهيم الإيباري، ومحمد المعداوي، ومحمد حسنين البولاقي (والد أحمد حسنين باشا) وسواهم.
تقول كوداما : إنّ عفّة بورخيس واحترامه للآخرين جعل أدبه يتّسم بالعمق والشفافية والصدق، حيث جعل من هذه الأعمال بحثاً دائماً عن كنه الإنسان وماهيته، وقد أدخلت هذه الاعمال السّرور والفضول والمتعة والتطلّع في قلوب وعقول القرّاء في مختلف أنحاء العالم على تفاوت أعمارهم ، وما يزال تأثيرها يتعاظم على مرّ السنين، ليس فقط في اللغة الإسبانية التي كتب بها هذه الأعمال، بل في مختلف اللغات التي نقل إليها هذا الأدب وفي مقدّمتها اللغة العربية.

آخر كلمات بورخيس

ما هي آخر الكلمات التي أملاها الكاتب خورخي لويس بورخيس قبيل وفاته في جنيف؟ لقد كان الجواب عن هذا السؤال حتى الآن سرّاً محفوظاً من طرف أرملة الكاتب الراحل ماريا كوداما. إلاّ أنّ مطبوعاً تحت عنوان «آخر تقديم لبورخيس» كان قد صدر في بوينس أيريس أثار جدالاً حادّاً بين قرّاء بورخيس ونقاده والمعجبين به.
بادرت ماريا كوداما على إثر ذلك إلى توجيه مجموعة من الرّسائل إلى مختلف الجرائد والمجلات الارجنتينية توضّح فيها ما يلي: «أريد ان أنبّه القرّاء إلى مدى الزّيف الذي ينطوي عليه هذا العنوان: «آخر تقديم لبورخيس» إذ حسب أرملة الكاتب فإنّ آخر تمهيد أو تقديم كان قد كتبه الكاتب هو المتعلق بالطبعة الفرنسية لأعماله الكاملة ضمن السلسلة «بليار» عن دار النشر الفرنسية المعروفة «غاليمار».
وتؤكّد كوداما أنّ بورخيس كان قد أملى عليها هذا التقديم، إلا أنه لم يتمكّن من إنهائه وإتمامه، وتضيف كوداما: «إن ناشر هذه الأعمال الكاملة وهو الفرنسي جان بيير بيرنيس شرح كيف أنّ هذا هو بالفعل آخر تقديم كتبه بورخيس في حياته، والذي ظهر أو أدرج فيما بعد ضمن الأعمال الكاملة إياها. لماذا إذن وكيف ظهر النصّ الأرجنتيني الذي سبّب في إثارة هذا النقاش بين النقاد والمثقفين والمعجبين والمتخصصين في بورخيس؟ الواقع أنّ هذا الكتاب يضمّ 11 قصة لبورخيس. وفي التقديم المختصر الذي وضعه لهذا الكتاب يشير إلى أنّ 9 من الأعمال المُدرجة في هذا الكتاب هي من أجمل منتقيات إنتاجه الأدبي، ومن ثمّ تشكّ ماريا كوداما بالتالي في صحّة ومصداقية هذا التقديم الذي يشير بورخيس فيه: «لقد خامرني الشكّ ذات يوم بكون الأعمال الكاملة إنمّا هي خطأ ذو أصل تجاري أو احترافي، فأيّ رجل له الحقّ في أن يستمع إلى حكم النقاد حول أنصع صفحاته، وليس فقط حول تسليات وشطحات قلمه أو رسائله العرضية، إنّني أريد أن أتصوّر أحكام النقاد حول النصوص التسعة بالذات الموالية وليس حول صدى تلك القصص في الذاكرة».

صفحات منسيّة من آداب بورخيس

قال بورخيس:
ليس من حقّ أحدٍ
أن ينتقصَ بالدّموع أو العتاب
من شأن هذا الاعتراف البارع
بالتفوّق والمهارة
حيث منحني الله 
بسخريةٍ رائعة 
وفي الوقت ذاته 
الكتبَ والليلَ..!

محمّد محمّد الخطاّبي


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads