الرئيسية » » كيف الحال؟ | أسماء ياسين

كيف الحال؟ | أسماء ياسين

Written By هشام الصباحي on السبت، 30 أغسطس 2014 | أغسطس 30, 2014

كيف الحال؟

لا أحد يعرف سر حاجتي للهدوء الآن، هو أمر يطول الحديث فيه، أنا أحب أن أروي الحكايا طازجة، وأرى فيما عدا ذلك اجترارًا، وهذه الأيام، أكثر من أي وقت مضى، أود أن أحكي عن كل ما حدث، قبل أن يفقد نضارته؛ هذه الحكايا ستكون كالفاكهة العطنة بعد يومين من الآن، وسأقف صامتة، مع بعض الاستياء، أمام السؤال التقليدي :" كيف الحال؟". 
كان وجهي منعكسًا على زجاج شفاف يُظهر بعض الأغراض التي تستخدم في صنع الطعام، ورجال يروحون ويجيئون، يصنعون ضجة توشك أن تصبح مزعجة، والقهوة بُن خفيف بسكر زائد عن المطلوب. سألقي بالرجال اليوم في قاع البئر، وأفعل خطوة مؤجلة؛ سأفتش عن دواء لعيني، قبل أن يدركني العمى أنا الأخرى، وأفقد مزية أن تذكرني عطوري المفضلة، المختلفة باختلاف المواسم، برجل أصبح يصمت أكثر مما يقول "يفضل الرجال دائمًا الأفلام التسجيلية، لا يميلون للفاكهة ولا يعلمون شيئًا عن مزايا الخيال الرطب، إنهم بالتأكيد يستحقون الغرق". 
لا كُحل، وربطة مطاطية للشعر، ألم في الكتفين من أثر الحقيبة الثقيلة، وألم في الذاكرة من تحت راس حكايا الرجل الغريب عن الطرقات الممهدة والمتكسرة ورجال المرور، والسينما القديمة التي قتلت فتاة بداخلها منذ زمن بعيد، وتسكنها العفاريت الآن، ومازالت بعض نسوة في المدينة، بعد مرور نحو ربع القرن على الحادثة، يخفن المرور من جوارها. 
تنهب العربة الطريق، والليل أسود، وظلال سود تحت جفنيّ السفليين، ولا رائحة على الإطلاق للطريق! هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب؟ لو فعلت! ولعلك إن فعلت، ولو لمرة واحدة، لما حوّلت وجهك إلى الناحية الآخرى، كأنك لا ترى شيئًا، وربما لم تكن ترى شيئًا، وأنا أكره ذلك كثيرًا، ربما لم أشعر بضغينة في حياتي تجاه شيء سوى أن تدير وجهك إلى الجانب الآخر كلما زاد احمرار عيني، وكأنك أعمى! سأحاول في هذه السن تعلم كيف أقطر الدواء في عيني من دون مساعدة. 
كانت رقبتها بين يديه والكلمات تندلق من فمه بسرعة وغضب، فتصبح لهجته محلية أكثر، كان دائمًا يحاول مقاومة أن تفلت الكلمات من فمه، فتبدو مثل كل أهل المدينة، وكنت أنا على الجانب الآخر من الغرفة، أفكر إن كان الله يشعر بشيء، أو يتأثر بالمبيدات الحشرية التي تذبح رئتي، وقفت خلف الستارة الذهبية، كنت أختبئ، وتمنيت موتهما معًا، وتخيلت أنني لو استنشقت علبة المبيد الحشري بأكملها فربما مِت، لكنني لم أجرؤ على تجربة الأمر، سعلت بمجرد التخيل، ولم يكن هناك أثر لصوت، ثم أذّن المؤذن فجأة، ورد عليه مؤذن آخر، وتقاطر الضجيج، جامعان بينهما مئة متر، ومئات الحشاشين الذين ينطلقون من العِشاء للمقهى على حافة النهر، لكن كل تلك التفاصيل لا تضيف جديدًا، حتى وإن كان سعالي لم يلفت سمعهم، فاستمروا في الخناقة.
أنا لا أعرف الفتاة التي قتلت في دار السينما القديم، وبالطبع لا أعرف من قتلها، ولم أكن ولدت بعد، كنت ولدت لكنني لا أذكر، كما أنني تعافيت من كل الأمراض المتعلقة بالرئتين منذ بدأت بالتدخين. لم أهتم بسؤال الرجل الغريب، الذي كان يضحك بلا صوت، عن تفاصيل جريمة " السيما"، خيالي بخير رغم ذلك؛ طرحت أسئلة أخرى تتعلق بالناحية الشرقية من المدينة، كنت أود معرفة بعض التفاصيل التي فاتني معرفتها قبل السفر، سألته عن مدى حدة إبصاره، وتصوره عن الصمت، وفرحته بآثار الزمان على رأسه. خيالي لم تصنعه تلك الأيام القديمة التي لم أكن أرغب بتذكرها عوضًا عن الحواديت التي حدثت مؤخرًا وأخشى أن تفسد قبل حكيها، أنا لم أدخل أية سينما في المدينة، لأنه لم تعد هناك واحدة منذ أغلقت المشئومة، وسمعت في زيارتي الأخيرة أن أرض السينما القديمة التي بجوار السنترال بيعت. سنلتقي قريبًا، كن من الفطنة ولا تسألني، مثلما يبدأ الناس هنا كل محادثاتهم : كيف الحال.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads